لا تستهينوا بنا .. فالمقاومة تجري في عروقنا .. سنبقى مقاومة !

الخميس، 23 أكتوبر 2014

للشيخ طه الدليمي/التمكين.. بين مفاهيم الدولة ومفاهيم الأمة





التمكين

بين مفاهيم الدولة ومفاهيم الأمة



4525في اليوم الفائت كتبت (تغريدة) جاء فيها: "والنصر قد يكون ثباتاً على الحق، وقد يكون نجاة من الظلم. أما النصر بمعنى دحر أهل الباطل وهدم دولتهم وتكوين دولة أهل الحق فقد يتأخر؛ وذلك بسبب عدم صلاح الأمة، كما حصل لموسى u وقومه، فكان ذلك على يد يوشع وطالوت ثم داود عليهم السلام؛ فبناء الأمة مقدم على قيام الدولة". وختمتها بالقول: "ركزوا أنظاركم على بناء الأمة فإن فعلتم فدولة الحق قادمة بإذن الله جل في علاه".

أشكل الكلام على بعض القراء، وأساء البعض فهمه؛ فرأيت – لهذا، ولأهمية الموضوع - أن أوضحه وأشرح مرادي به في مقال منفصل.



الإسلام دين ودولة .. لكن بمفاهيم أمة

مفهوم الدولة مفهوم سياسي عسكري، بينما مفهوم الأمة مفهوم ثقافي إنساني.

الأرض والشعب والحكومة.. هذه هي مكونات الدولة، والحكومة سياسة وقوة. أما مكونات الأمة فكل ما يقوم عليه بناء الدولة من معان ومفاهيم إنسانية تشكل ثقافة الشعب وأخلاقه وسلوكه داخل الدولة. ولا تماسك ولا استمرار ولا نماء لدولة لا تقوم على مفاهيم أمة.

والإسلام دين ودولة، لكن بمفاهيم أمة.

لقد كانت مفاهيم الأمة حاضرة في دين الإسلام منذ لحظة نزوله، وذلك قبل قيام الدولة أو نزول مفاهيمها. ففي سورة (العلق) كان العلم والنظر في آفاق الكون ودلائله، والنفس وما فيها من علل، والمجتمع وما فيه من طواغيت. كل ذلك موشحاً بالإيمان باليوم الآخر، ومختوماً بالسجود والقربى. وفي سورة (القلم) دخل الخُلُــق بشقيه الإيجابي والسلبي ميدان التأسيس. وفيها النظر في تاريخ الماضين؛ ليأخذ المتلقي: نبياً وأصحاباً درساً في الثبات؛ فعاقبة الخروج عن السبيل، ولو قليلاً، مخيفة. ولم ينزل الأمر بدعوة الخَـلق وإنذارهم في سورة (المدثر) قبل استكمال عدة العلم والخُلُــق والعبادة، ولم يكتب إلا محفوفاً بجملة من الشروط والمؤهلات ابتدأت بتعظيم الرب وانتهت بالأمر بالصبر؛ فمن كان عاجزاً عن دعوة نفسه وتربيتها فهو عن غيره في ذلك أعجز.

وتواتر التنزيل المكي يربي في نفوس الصحابة مفاهيم بناء الأمة وتهيئة المجتمع. تأمل سورة (الإسراء) وما فيها من مفاهيم بانية للمجتمع. منها تأسيس الدعوة على العلم بالحقائق لا على المعجزات والخوارق. وهو مفهوم يكاد يغيب عن ذهن المسلم اليوم. وتتابعت المفاهيم فكان منها أسباب هلاك الأمم، والتوحيد، وذم الشرك، وبر الوالدين، وصلة الأقارب، والإحسان إلى المحتاج موصولاً بذم الإسراف والتبذير علاجاً لطغيان حالة الكرم عند العربي عن حدها. وكان منها النهي عن قتل النفس والزنا وأكل مال اليتيم. وتطرقت إلى السوق لتعالج الجشع: إجرائياً فأمرت بإيفاء الكيل والميزان، وإيمانياً فذكرت أن هذا خير وأبرك عاقبة. وعالجت العقل فأرشدت إلى تفعيل مداخل علمه: السمع والبصر والفؤاد. كما عالجت النفس فنهت عن الخيلاء والكبرياء. وفي ذلك ما فيه من التواضع للخَـلق وترك التعالي عليهم، فتتقارب النفوس وينبعث الحب وتزيد الروابط بين المجتمع. ودون ذلك لا يمكن إقامة دولة قوية متماسكة.

وتربية المسلم على أنه صاحب رسالة عالمية: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (ص:88،87)، والتواصل الروحي مع الأنبياء عليهم السلام والرسالات والأمم المسلمة السابقة.. جزء من مفاهيم الأمة: (... وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ * إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:47-92). وفي سورة (المؤمنون) نسق مشابه. وهكذا؛ فكانت الفترة المكية محضناً لتربية المسلمين على مفاهيم الأمة.



قيام الدولة على مفاهيم الأمة

ثم تأسست الدولة في المدينة وقام بناؤها، وتنزلت مفاهيمها من العدل والشورى وإعداد القوة وبسط الأمن الداخلي والخارجي وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وتوفير الخبز وفرص العمل وتشغيل الأيدي العاطلة وغيرها. ولكن كانت مفاهيم الأمة هي الأساس الذي قام عليه بناء الدولة. وفي سورة (البقرة) بيان تفصيلي للترابط الوثيق بين تلك المفاهيم بشطريها. ومن أمثلتها تأسيس الجهاد  - الذي هو، في أصله، مفهوم دَوْلي - على الرسالة: ملخصةً بـ(الهدى) تأصيلاً وتفريعاً، وعلى الترابط الاجتماعي مشاراً إليه بالزواج من الأيامى وكفالة اليتامى، وما تبع ذلك من بيان للعلاقة الأسرية الناجحة. عدا الأمر بالزكاة والصدقة والدَّين والإنفاق في وجوه الخير. وغير ذلك من أسس الترابط الاجتماعي. مع النهي الشديد عن كل ما يؤدي إلى التفكك المجتمعي ومنه الربا.

وبقيت هذه المفاهيم الأممية تتنزل حتى آخر سورة وهي (النصر) مع أن موضوعها وهو النصر على الأعداء يتعلق بالدولة. لكن الله تعالى أراد من عبده المنتصر أن ينظر إليه نظرة ثانية. فالنصر الذي تحقق هو (نصر الله) لا نصره؛ لهذا عليه أن يسبح الله تعظيماً له على إنجاز ما وعد. فالله هو الذي يُعظم في هذه الحال، فيلهج بذكره. وأما الفاتح المنتصر فليس له - وهو في أوْج النصر – إلا الاستغفار والتوبة مما اعترى فعله من نقص وتقصير، ولا غير. وغياب هذا المعنى هو الذي يفسح المجال لدى الفاتحين لبروز الغرور وظهور معالم الطغيان التي تبلغ مداها في استباحة البلاد المفتوحة وظلم أهلها.



عندما تطغى مفاهيم الدولة على مفاهيم الأمة

إقامة الدولة أمر ممكن متى ما ابتغيت إليه أسبابه. لكنها - إذا كانت خاوية من مفاهيم الأمة - إما تزول سريعاً أو تكون قائمة على الاستبداد؛ لأن هذه المفاهيم هي التي تصنع الدِّعامة الساندة والحاضنة الصالحة، وبفقدانها ستختل العلاقة بينك وبين الشعب فتجد نفسك مجبراً ومدفوعاً إلى استعمال القوة للحفاظ على كيان الدولة، وستجد مئة عذر وعذر (مشروع) يسوغ لك حكم الناس بالقوة. وهذا هو الاستبداد، وفاعله المستبد. وليس شرطاً أن يكون المستبد شاعراً بأنه مستبد. بل قد يكون منسجماً مع نفسه وإرادته وفعله مهما كان؛ أليس ما يفعل لأجل دولة الإسلام؟ وفي نهاية المطاف ينفصل الشعار عن الواقع، فتكون الدولة إسلامية وحقيقتها استبدادية؛ فالأمر ليس بالتمني ولا بالتحلي. ولكل شيء لغته ومفتاحه.

عندما لا تقوم الدولة على مفاهيم الأمة يكون الجيش حامياً للدولة لا للشعب، وتتحول الدولة إلى كيان بوليسي مخابراتي، ليس لأجهزته الأمنية مهمة تتعدى التجسس على الناس ومتابعتهم ومطاردتهم حفاظاً على سلامة الحاكم وأعوانه، وعلى هيكل الدولة ومؤسساتها؛ لأن العلاقة بين الدولة والأمة أو بين الحاكم والشعب استحالت إلى كراهية وشك وتوجس وخوف. على العكس مما لو قامت الدولة على مفاهيم الأمة فإن الجيش يكون حامياً للشعب، والحاكم جزء من هذا الشعب فحمايته تحصيل حاصل؛ وعندذاك يستميت الشعب في الحفاظ على هذه الدولة.. على هذه الأمة.



الاستثناء وارد .. ولكن إلى حين

هذا هو التسلسل الطبيعي لقيام دولة الإسلام. يكون بناء الأمة فيه مقدماً على قيام الدولة رتبة وتوقيتاً. لكن هذا لا يعني عدم التعامل مع المتغيرات بحسبها؛ فقد نلجأ إلى حمل السلاح لحماية الذات قبل نضوج الفكر بما فيه من مفاهيم. والانتظار حتى اكتمال البناء طبقاً لهذا التسلسل قد يسبقه المحو فالزوال. لهذا نحن مع أي جهد لإنقاذ أهل السنة وحمايتهم من طاغوت الشيعة: سياسياً كان الجهد أو عسكرياً، وإن كنا لا نتفق معه تمام الاتفاق. ومن هذا الباب دعونا وندعو لتكوين الإقليم السني. ومن الباب نفسه نفرح لانتصارات أسود السنة دون تفريق على الشيعة وأعوانهم دون فرق، وندعو لهم بالنصر والصلاح. ولكن نحن نعلم يقيناً أن إقامة دولة بعد التمكن العسكري مع إهمال أو ضعف توفر مفاهيم البناء المدني الأممي سيؤدي بهذه الدولة إلى النهاية المذكورة آنفاً مهما كانت نواياها صالحة، أو ظنت نفسها كذلك. وإن أسمت نفسها دولة أو خلافة إسلامية؛ فالعبرة بالحقائق والمعاني لا الأسامي والمباني. وهذا هو الذي يدعونا للتحذير والنصيحة والبيان.



المشروع المدني

تجنب المطب الكبير الذي سقطت فيه الأمة منذ زوال الخلافة الإسلامية، يحتاج ضرورة إلى البناء على مشروع نهضة ربانية بانية يبدأ من الأسس، وتعلو سافاته من هناك يتلو بعضها بعضاً دون قفز أو فجوة بسبب ردات الفعل الطارئة، وإنْ تعامَل مع الطوارئ بحسبها. وهو ما أسميناه بـ(المشروع المدني) الذي نتبناه وندعو إليه بقوه؛ ففي هذا المشروع يتم الإعداد لجيل واعد عظيم، يعرف كيف يقيم دولة ولكن بمفاهيم أمة.


22/10/2014


* (الصورة لتخرج حفظة القرآن في الفلوجة الصامدة)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق