بقلم : أبو عبد العزيز القيسي:: خاص بالقادسية
في قمة صراع هذه الأمة مع طوائف وملل الكفر , وفي زمانٍ تداعت فيه الأمم عليها تداعي الأكلة على قصعتها , ظهر بعض أدعياء السلفية وأخذوا بتنظيرات سقيمة أعادوا فيها مذهب المرجئة جذعاً , ففتحوا عليها أبوابا من الشر والفتن , ونفثوا في عقول الشبيبة سمومهم , فجعلوا منهم مسوخاً , وأجساداً لا حياة فيها ولا روح فأمسوا عبئاً ووبالاً على الأمة , بل سما ًيجري في شرايينها يفت في عضدها ويوهن قواها .. ويبلد حسها ووجدانها حد الثمالة , فهم وإن كانوا يرون ، فكأنهم لا يرون توالي المصائب على هذه الأمة ، ولا ينظرون إلى أسبابها , وعلى الرغم من توالي النكبات فلا همَّ لهؤلاء إلا قذف الشبهات , فأوهموا أنفسهم قبل غيرهم بتلك التفاهات , فماتت عندهم الغيرة , وعُدمت عندهم الحرمة .. بلى والله .. فلقد ابتليت الأمة بهؤلاء ونالها من الشر منهم أكثر مما نالها على أيدي أعدائها , فلم تزلْ أقلامهم المسمومة تمنح الشرعية لكل من تجرأ على دين الله , لا لشئ لمجرد مقالة قالوها بألسنتهم ولم تلامسها قلوبهم , بل ناقضوها بالقول واللسان والجنان , ومع كل ذلك يصر هؤلاء على أنهم تحت مسمى الإيمان , وان لهم العصمة كما لكل مؤمن قامت فيه مقتضياتهـــا .
لقد أوغل هؤلاء في غيّهم فكان عندهم سب الله عز وجل علامة كبرى من علائم الإيمان , إذ لولا تعظيم ذلك الساب لله عز وجل , لما سبه ؟ ! كلمات وعقائد تجلب الهمّ , وتميت القلب .
لقد صانوا رماحهم وسيوفهم عن كل منافق , ومستخف بدين الله , بل مابرحت ألسنتهم وأقلامهم تزكي كل مجترئ عليه , في وقت أعلنوا فيه التكفير والنفير بوجه المدافعين عن دين الله حقيقة , يصفونهم بالخروج عن دين الإسلام تارة , وبالخروج عن منهج أهل السنة والجماعة تارة أخرى .
لقد إستمرءَ هولاء الذل والهوان , فلو تجمعت منكرات الدنيا كلها لن ترى منهم , إلا التأفف وتذمر اللسان .
إن لهؤلاء المرجئة جنايات عظيمة على هذه الأمة , فقد ميعوا الأصول وأذابوا الفواصل , والغوا الثوابت وتساوت عندهم القمم , بل إنهم قد أصيبوا بعمى البصر والبصيرة , فسووا بين قمة الجبل والمنحدر , فإيمان أبو بكر رضي الله عنه , عندهم كإيمان الخميني عليه لعائن الله , وكان من نتائج هذا التنظير أن الكل عندهم مؤمن , مكتمل الإيمان , مادام .. يلهج بشهادة أن لا اله إلا الله , وأن محمدا رسول الله , دون النظر إلى أعمال الجوارح والقلب واللسان , لذلك وحسب هذا التنظير فان الفرق التي خرجت من دين الإسلام لمناقضتها لإصوله , بل حتى تلك التي تأسست على مناقضته وحربه كالشيعة الرافضة , تكون في نظر هؤلاء من فرق الأمة المحمدية , أو من أهل القبلة , لذلك فلا يصح حسب هذا التأصيل أن تتهم بناقض من نواقض الإسلام , فضلا عن رميها بالتكفير .
ومن نتائج هذا التأصيل أيضا أن نجد وعلى الرغم من الجنايات العظيمة التي يرتكبها الشيعة الرافضة في حق هذه الأمة والتي ينكسر من خطها سنان القلم , أو الحديث عنها ، لبشاعتها , وهول مقدماتها ومآلاتها , وهمجية جرمها , وكثافة سمها ولؤمها , انك تجد الكثير من علماء الأمة قد بلع لسانه , وضيع من القلم بيانه ، ولم يتجرء على إصدر فتوى واحدةً تبين جرم هذه الطائفة , فضلا عن تكفيرها , وبيان حقيقتها لعامة هذه الأمة .
بل تجد الكثير من هؤلاء الذين ينسبون أنفسهم إلى السلف الصالح قد اخذ ينظّر لما يخرّج ويبرّء الطائفة من كفرها وجرمها في حق الأمة والبشرية جمعاء , معللين ذلك الجرم والكفر بالجهل وعدم المعرفة ، بذريعة أن هؤلاء لم تبلغهم الحجة , ولم يفرق هؤلاء أو شاؤوا ذلك بين البلاغ والفهم , ومن هذا الباب فقد فرقوا بين عوام الشيعة ومراجعهم , مع إننا لم نسمع منهم كلاما صريحا في تكفير هؤلاء المراجع , فكان من تلك التأصيلات : أن عوام الشيعة لايُكفرون بأعيانهم لعلة الجهل وعدم بلوغ الحجة , ولعدم وجود شرط الاستحلال أو العناد , أو على الأقل عدم ظهور ذلك منهم على وجه اليقين .
ولله در الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله حيث أجاب على هذه الشبهة عندما قال بتكفير الرافضة الشيعة بصورة مطلقة , فسأله أحدهم : وعوامهم ؟ .
فألتفت اليه الشيخ - حيث كان السائل في جهة الشيخ اليسرى - وقال : وعوام اليهود والنصارى ، أليسوا كفاراً ؟.
فقال السائل : بلى .
فقال رحمه الله : وكذلك الرافضة .أ.هـ
بل إن الشيخ صالح بن فوزان حفظه الله جعل من تلك الشبه نوع من التفلسف وعنوان من عناوين الإرجاء , وكان في نبرات الجواب علامات الإمتعاض من ذلك الإرجاء العريض الذي بدا من فم السائل , وذلك حين توجه إليه بالسؤال :
ما حكم عوام الرافضة، هل يأخذون حكم علمائهم ؟!
فكان جوابه حفظه الله : [ يا إخواني اتركوا هالكلام هذا! الرافضة حكمهم واحد !
لا تتفلسفون علينا! حكمهم واحد ،كلهم يسمعون القرآن،كلهم يقرأون القرآن ، بل يحفظون القرآن ! أكثرهم بلغتهم الحجة ، قامت عليهم الحجة ؛ اتركونا من هالفلسفات ! وهالإرجاء الذي انتشر الآن في بعض الشباب والمتعالمين !؛ اتركوا هذا ! من بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة ، { وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} إلى يوم القيامة.]
إن التكفير سنة قطعية قضت بها نصوص الكتاب والسنة , ولكنك تستشعر وعلى سبيل القطع أثناء حديثك عن هذا الحكم أن عموم المنتسبين إلى أهل السنة أصبحوا يظنون بل يقطعون أن هذا الحكم لا يجوز الانشغال به , وكأن هذا الأمر بات في أذهان هؤلاء , وبتلقين دعاة المرجئة أمرا محرماً ..
بلى هنالك تكفير مذموم ومشروع وهو مقتضى قول الباري جل جلاله :{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن : 2] وعلى هذا فان الخلق مكلفون ودائرون بين الكفر والإيمان ., وهذا التصنيف من ثوابت الدين الضرورية وليس من تصنيفات الخلق , وله آثاره وفوائده التي لا يمكن إنكارها أو تجاهلها ومن تلك الآثار :
المعرفة الإجمالية بدين الله جل وعلا والتي تمكنه من التمييز بين أصول الدين وثوابته , والتي لا يصح بحال تجاوزها أو الاعتداء عليها , وبين نواقضه والتي متى ما أرتكبت أصبح الجاني خارجا عن دائرة الإسلام بعد تحق الشروط والموانع الحقيقية في التكفير .
تكفير الكافر تصديق لنصوص الكتاب والسنة وعمل بقواعد هذا الدين الحنيف .
التمييز والمفاصلة بين المؤمن والكافر ذلك أن الله عز وجل فرض على عباده فروضا لا تتحقق إلا بتلك المفاصلة وذلك التمييز , وهو أمر لا يتحقق إلا بتطبيق هذا الحكم والعمل به , فمن تلك الفرائض :
وجوب هجرة الكافر ومعاداته وبغضه وجهاده في حال القدرة والتمكن , وحرمة توليه والثقة به وائتمانه والركون إليه وحرمة تزويجه أو الزواج منه , وحرمة الترحم والاستغفار له حياً كان أو ميتاً , كذلك حرمة الصلاة عليه ، وغير ذلك من الأحكام , ولولا التمايز لما كان هنالك سبيل لتحقيق تلك الفروض .
لولا هذا الحكم لذابت عقيدة الولاء والبراء , فالولاء شئ آخر غير المعاملة الحسنة , بل ارتباط وتناصر وتواد وتراحم , وهذا لا يكون إلا بين المؤمنين خاصة الذين لا يرتبطون إلا بمنهج الله جل وعلا , ولا يتحاكمون إلا لكتابه وسنة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه .
إن هذا الولاء ليس مجرد كلمات هائمة تذلق على اللسان , ولا مشاعر تهيم في مفاصل الوجدان . انه ليس مجرد كلمات تقال , ولا مشاعر تجيش , ولا شعائر تقام , ولكنه طاعة محكمة , وعمل قائم بمنهج هذا الدين القويم , يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في شرح قول ابن عباس [ ووالى في الله ] هذا بيان للازم المحبة في الله ، وهو الموالاة فيه إشارة إلى أنه لا يكفي في ذلك مجرد الحب ، بل لابد مع ذلك من الموالاة التي هي لازم الحب . وهي النصرة والإكرام ، والإحترام والكون مع المحبوبين باطناً وظاهراً. وقوله:[ وعادى في الله ] هذا بيان للازم البغض في الله، وهو المعاداة فيه. أي إظهار العداوة بالفعل كالجهاد لأعداء الله ، والبراءة منهم ، والبعد عنهم باطناً وظاهراً ، إشارة إلى أنه لا يكفي مجرد بغض القلب ، بل لابد مع ذلك من الإتيان بلازمه كما قال تعالى : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة : 4].
ومما سبق يتبين ويتميز أولياء الرحمن من أولياء الشيطان , وان قضية الولاء والبراء هي من أعظم لوازم لا اله إلا الله , لذلك فان من أعظم الواجبات على المسلم أن يتعلم من الأسباب والأدوات والعوامل ما يصير له سلاحا يقاتل به شياطين الأنس والجن , ومن ثم تفضي نفسه إلى تلك النتيجة القطعية التي أوحى بها رب العزة تبارك اسمه : {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء : 76], وبذلك يستعلي قلب المسلم عن الهزيمة الداخلية ويبقى قوة رافضة للباطل مهما استطال وتمدد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق