أن من عقائد الإسلام (الرضا بالقدر خيره وشره)، والقدر هو ما كتبه الله تعالى على مخلوقاته جميعا ًمن أمرهم، من يوم خلقهم الى يوم يبعثون. وقد خلق سبحانه ـ هوالأول والآخرـ أول ما خلق ( القلم ) وأمره بكتابة مقادير كل شيء ، وكما جاء ذلك في الحديث النبوي الشريف: ( إنّ أول ما خلق َالله القلم قال له: أكتب، قال: ما أكتُب ؟ قال: أكتب القدر، ما كان وما هو كائن الى الأبد ) [صحيح رواه الترمذي وأبو داوود] وقد ذكر الأمام ابن كثير في البداية والنهاية : الذي عليه الجمهور إن العرش مخلوق قبل ذلك، وقال أبن عباس (رضي الله عنه) :هو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض قال الله تعالى له : أجر فقال: يا رب بـِم أجري؟
قال: بما هو كائن ٌالى يوم القيامة ، فجرى على اللوح المحفوظ .
ما تقدم من حتمية القدر ووجوب وقوعه كما هو على اللوح المحفوظ يدعو البعض الى التساؤل ) :فما نفع العمل والسعي ؟ أذا كنا لا نخرج من قدر الله تعالى لنا وإنما نجري فيه )، وهو سؤال ٌليس بجديد ، فقد قال الأمام أبن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه (شفاء العليل في مسائل القدر والحكمة والتعليل): [يسبق الى أفهام كثير من الناس أن القضاء والقدرإذا كان قد سبق فلا فائدة في الأعمال، وإن ما قضاه الرب ّسبحانه وقدره لابد من وقوعه، فتوسط العمل لا فائدة فيه، وقد سبق أيراد هذا السؤال من الصحابة على النبي (صلى الله عليه وسلم) فأجابهم بما فيه الشفاء والهدى ففي الصحيحين عن (علي بن أبي طالب) كرم الله وجهه قال:( كُنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومعه مخصرة، فنكس فجعل ينكث بمخصرته ،ثم قال :ما منكم من أحد ٍ، ما من نفس ٍمنفوسة ٍإلا كُتبَ مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كُـتـِبَـت شقية أو سعيدة، فقال رجل: يارسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منـّا من أهل السعادة فسيصير الى عمل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة، فسيصير الى الشقاوة، فقال: أعملوا، فكل ٌميَسّرٌ، أما أهل السعادة فيُيسّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسّرون لعمل أهل الشقاوة.
وقد أكد هذا المعنى الحديث الشريف حيث قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( إن الله عز وجل خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره ِوقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي ، فقال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواضع القدَر) [صحيح رواه أحمد، وأبن حبان] .
هذه مقدمة لابد منها في ظروف نعيشها الآن وقد عظمت الخطوب وكثر القتل لحد أختلطت على الناس المفاهيم ، وبرزت الأسئلة في ما أذا كان الذي حدث هو أمرٌ ولـّدته ُالأحداث وسبّبه الضالون المفسدون لمصلحتهم الخاصة ولا شأن للقدر فيه، أم هو قدر ٌمحتوم لابد من وقوعه ولا يجدي معه عناء ولا حلول .
فمن قال هو أمرٌ صادر من البشر الذين أتبعوا الشيطان فأضلهم فأفسدوا في الأرض ، والله لا يرضى بالظلم ولا يعين عليه. فقد أصابَ، كون الله لا يرضى بالظلم ولا يعين عليه، وقد أخطأ، كونه أنكر القدر وأرجع الأمر الى مشيئة وأرادة بشرية بحتة.
ومن قال أن ما جرى قضاء الله تعالى وقدره على خلقه وما لنا من الأمر من شيء ، فقد أصاب، كون الأمر كله بقدر وقضاء من الله تعالى محتوم لامحالة. وقد أخطأ أيضاًفي أيمانه بالقدرية المطلقة ونكرانه للعمل وللأخذ بالأسباب مع التوكل الى الله تعالى في الهداية . أن الأسلام دين عقيدة ومعاملات، وما ترك شيئا إلا وله تبيان من الكتاب والسنة المطهرة الصحيحة بفضل الله تعالى ومنـّهِ .وذلك هو مراده تعالى في جعل دين الأسلام أكمل الأديان على الأطلاق ويصلح لكل العصور. وما المذاهب الأربعة دلالة على نقصان هذا الدين حاشا لله حتى أكمل كل منهم جزءا ، وإنما هي تفصيل في المسائل التي أستُحدِثت بتقدم العصر تستدعي الأجتهاد لصالح العموم ولا تخرج عن الأساسيات في الشرع . فالكتاب والسنة فقط منبع لكل هذه المذاهب رضي الله عن أصحابها وجزاهم خيرا ً. وقد أحتوت كل هذه الصحاح المباركة على ذكر الأحاديث النبوية في مسألة القدر والعمل مع الأيمان به كما سيتقدم .
لقد أجاد علماء الدين الأجلاء قديما ًوحديثا ًفي مسائل الربوبية والألوهية وفي حكمة الصلاة والصيام وباقي اركان الأسلام وأسهبوا في شرحها وتفصيلها وأستنفذوا حياتهم لصالح العامة أرضاءاً لله تعالى وبنية خالصة معتمدين على القرآن الكريم وصحيح الأئمة الأربعة، وكان منهم ذكرا لا حصراً الفقيه ( أبن تيمية وأبن القيم وأبن الجوزي ) وغيرهم .ففي مسألة التوكل مع الأخذ بالأسباب، أبدع الأمام (أبن قيـّم الجوزية) رحمه الله تفصيلا ًفيها، في أروع كتبه على الأطلاق ( مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين) حيث كتب :
[أن التوكل حال مركبة من مجموعة أمور،لا تتم حقيقة التوكل إلا بها ،فأول ذلك معرفة بالرب وصفاته، من قدرته وكفايته وقيموميته وإنتهاء الأمور الى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته . وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل . وأعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم التوكل البتة لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سببا ًفي حصول المدعو به . وصـرّح هؤلاء إن التوكل والدعاء عبودية محضة لا فائدة لهما إلا ذلك ، ولو ترك العبد التوكل والدعاء لما فاته شيء مما قـُدِر له ! , ورأيت بعض متعمقي هؤلاء، من يجعل الدعاء بعدم المؤاخذة على الخطأ والنسيان عديم الفائدة ،إذ هو مضمون الحصول بل لا يجوز الدعاء بهذا لانه يتضمن الشك في وقوعه، ومن شك في ذلك شك في خبر الله تعالى . فانظر الى ما قاد أنكار الأسباب من العظائم . وجواب هذا الوهم الباطل هو إن الله تعالى قضى بحصول الشيء سببه من التوكل والدعاء، وقضى بحصوله إذا فعل العبد سببه، فإذا لم يأت بالسبب أمتنع المسبب . وهذا كما قضى بحصول الشبع إذا أكل ، وقضى بحصول الحج والوصول الى مكة إذا سافر العبد وركب الطريق فإذا جلس في بيته لم يصل الى مكة ابدا ً، كما قضى بدخول الجنة إذا أسلم وأتى الأعمال الصالحة . [بأيجاز] .
قد تبع هؤلاء الفقهاء علماء دين وكتاب في العصر الحديث , شرحاً وأيضاحاً في مسألة الخلق والقدر والتوكل وغيره، معتمدين على ما كتب هؤلاء من كتب نفيسة لاغنى عنها لأي دارس أو باحث أو مدرس. وقد أضافوا من هِبة البصيرة والعلم التي أودعها الله فيهم ما يتناسب مع العصر الحاضر ومسائله المعقدة والمخاطر التي تواجه المسلمين ما يستحق القراءة والتفكر . وأحد هذه الكتب القيمة كتاب (السيرة النبوية، عرض وقائع وتحليل أحداث للدكتورعلي محمد الصلاّبي) , ففي الفصل الرابع (هجرة الحبشة ومحنة الطائف ومنحة الأسراء) مقدمة وافية في تعامل النبي (صلى الله عليه وسلم ) مع سنـّة الأخذ بالأسباب ، حيث كتب فيها :
[من السنن الربانية التي تعامل معها النبي (صلى الله عليه وسلم) سنة الأخذ بالأسباب وهي مقررة في كون الله تعالى بصورة واضحة، فلقد خلق الله الكون بقدرته وأودعه من القوانين والسنن ما يضمن أستقراره واستمراره وجعل المسببات مرتبطة بالأسباب بعد أرادته ، فأرسى الأرض بالجبال وأنبت الزرع بالماء، ولو شاء الله رب العالمين لجعل كل هذه الأشياء وغيرها بقدرته المطلقة غير محتاجة الى سبب. ولقد وجـّه الله عباده المؤمنين الى وجوب مراعاة هذه السنة في كل شؤونهم الدنيوية والأخروية على سواء . قال تعالى: (وقـُل اعمَلوا فسَيرى الله عملَكُم ورسولُه والمؤمنون وسترَدّون الى عالِم ِالغيب ِوالشهادةِ فيُنبـِئُكم بما كنتُم تعمَلون ) [ التوبة : الآية 105] كما قال في الكتاب أعلاه في التوكل على الله واللأخذ بالأسباب (بأختصار) : المؤمن يتخذ الأسباب من باب الأيمان بالله وطاعته فيما يأمربه من أتخاذها، ولكنه لايجعل الأسباب هي التي تنشأ النتائج فيتوكل عليها . إنّ الذي يـُنشأ النتائج كما ينشأ الأسباب هو (قدر الله تعالى) ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن بل تحقق النتيجة قدر من الله مستقل عن السبب لا يقدر عليه إلا هو، وبذلك يتحرر المؤمن من التعبد للأسباب والتعلق بها وهو في الوقت ذاته يستوفيها بقدر طاقته لينال ثواب طاعة الله في أستيفائها .
ولا بد للأمة الأسلامية أن تدرك ذلك للوصول الى (التمكين) . ومن رحمته تعالى إنه لم يطلب من المسلمين فوق ما يستطيعونه من الأسباب ولم يطلب منهم أن يعدّوا العدة التي تكافيء تجهيز الخصم ولكنه سبحانه قال: ( وأعِـدّوا لهُم ما استطعتـُم مِن قوةٍ ومن رباطِ الخيل ِتُرهِبونَ بهِ عـَدّو الله ِوعدّوكُم وآخرين من دونـِهِم لا تعلمونَهُم الله يعلَمهُم وما تنفقون من شيء ٍفي سبيل ِالله يُـوَفّ إليكُم وأنتُم لا تُظلـَمون ) [الأنفال الآية :60 ] ] السيرة النبوية للصلابي .
لذا وبعد كل ماتقدم أقول: أن اليأس من جدوى السعي والدعاء لله والأتكال على القدر وحده هو منافي لأوامر الله تعالى . كما إن السعي بدون توكل ودعاء مقترن باليقين في الأجابة من الله تعالى، أو حتى السعي معهما من غير أن يكون العبد متيقن من أن النتائج موكولة الى أرادته تعالى في تحقيقها ،هو جحود لأرادته ولقدرته تعالى . وبعد لا يعقل أن ينّزِل الله تعالى الآيات الكريمة التي تحث على العمل وفضائلهُ في الحصول على المراتب العليا من الجنة إذا كان لا جدوى فيها، كما لا يـُعقل أن يـُلهم رسوله الصادق الأمين (صلوات الله تعالى عليه وبركاته وعلى آله) الدعاء المبارك المستجاب ويعلمه للمسلمين عند الرغبة في حصول المراد ، ما دام لا يؤثر في نتيجة الدعاء وأجابته .
لذلك إن على العبد الأخذ بالأسباب المتاحة مع التوكل والدعاء واليقين بالأجابة وعلى الله الأجابة بما قدر وقضى أو عدمها فربما أدخرها له في الآخرة وهذه نعمة أكبر من أجابتها في حياته الدنيا , والحمد لله رب العالمين على كل شيء، وحسبنا الله لا إله إلا هو عليه توكلنا وهو رب العرش العظيم .
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
( رب اجعل لي عندك زلفى وحسن مآب واجعلني ممن يخاف مقامك ووعيدك ويرجو لقاءك واجعلني أتوب إليك توبة ً نصوحاً وأسألك عملاً متقبلاً وعملاً نجيحاً وسعياً مشكوراً وتجارةً لن تبور )
ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ
كتب في أكتوبرت1 /2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق